سورة الكهف - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)}.
التفسير:
بعد هذا العرض الكاشف الذي جاءت به الآيات السابقة، لمواقف المؤمنين والمشركين، وأولياء الرحمن وأتباع الشيطان، وما يرى هؤلاء وأولئك من جزاء في الآخرة- بعد هذا، تعود آيات القرآن الكريم، فتلتقى بالمشركين من أهل مكة مرة أخرى، وتذكرهم بما يتلى عليهم من آيات اللّه.. فيقول سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} وفى الإشارة إلى القرآن الكريم بقوله تعالى: {هذَا الْقُرْآنِ} وهو معروف لهؤلاء المخاطبين- تنويه بشأن هذا القرآن، وبمقامه العالي الرفيع، الذي لا يراه إلا من رفع رأسه عن تراب هذه الأرض، واستشرف ببصره إلى مطالع الحق في آفاقه العليا، عندئذ يأخذ الإنسان الوضع الذي يمكن أن يرى فيه من معالم الوجود، ما لم يكن يرى منها شيئا، وهو ينظر إلى موقع قدميه! والتصريف: هو الإرسال، والبعث، والسوق.. ومنه تصريف الرياح، وهو هبوطها من أكثر منه؟؟؟.. وتصريف الأمثال: سوقها، وبعثها، مثلا بعد مثل.
وكلّ مثل فيه العبرة والعظة، وفيه ما يفتح للعاقل الطريق إلى الحقّ والهدى.. فكيف وهى أمثال كثيرة، تلتقى مع كل عقل، وتتجاوب مع كلّ فهم.. ولكن الجدل والمراء، آفة الإنسان، والحجاز الذي يحجز عقله عن أن يميز الخبيث من الطيب، ويفرق بين النور والظلام! {وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}.
.. فتلك هى بليّة الإنسان، ومضلّة الضالين، ومهلك الهالكين، من أبناء آدم.
قوله تعالى: {وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا}.
الناس هنا، ليسوا مطلق الناس، ولكنهم المكابرون المعاندون، الذين غلبت عليهم شقوتهم، فركبوا رءوسهم، وأبوا أن يصيخوا لصوت الدّاعى الذي يدعوهم إليه، وهم مشرفون على هاوية سحيقة تلقى بهم في مهاوى الهلاك.. والهدى الذي جاءهم: هو القرآن الكريم.
فهؤلاء الأشقياء الضالون، لم يمنعهم مانع من خارج أنفسهم أن يؤمنوا، ويستغفروا ربّهم على ما فرط منهم في جنب اللّه، وفى جنب رسل اللّه- ما منعهم من ذلك إلا ما ركّب فيهم من عناد عنيد وجدل سقيم، وأنهم- وهذا شأنهم، وتلك حالهم- لن يؤمنوا {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} وهى وقوع البلاء بهم، وأخذهم بما أخذ اللّه به الضالين المكذبين قبلهم، من هلاك مبين، لا يبقى لهم أثرا.. {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا} أي أو حين يطلع عليهم العذاب فيرونه عيانا، مقبلا عليهم، كما رأى فرعون الموت مقبلا عليه.. فقال: آمنت! ففى النظم القرآنى الذي جاءت عليه الآية حذف، يدل عليه السياق.
وتقديره: {وما منع الناس شيء أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربّهم- ولكنهم لن يؤمنوا- إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا}.
قوله تعالى: {وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً}.
أي إنه ليس هناك قوة خارجة عن كيان الإنسان ترغمه على الإيمان باللّه.
وإن رسل اللّه الذين أرسلوا لهداية الناس، ودعوتهم إلى الحق، لا يملكون هذه القوّة التي تحمل الناس حملا على الهدى، وتكرههم إكراها على الإيمان:
{وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} فتلك هى مهمّة الرسل، وهذه هى وظيفتهم في أقوامهم.. يبلغونهم رسالة ربهم، وما تحمل إليهم من مبشّرات ومنذرات.
وفى قوله تعالى {وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} بيان لموقف المعاندين الضالين، من دعوة الرسل، وأنهم يلقون رسالة اللّه، ودعوة الرسل بالمراء والجدل، وليس بين أيديهم في هذا الجدل، إلا الباطل يرمون به في وجه الحق، يريدون به أن يدحضوه، أي يوقعوه ويهزموه.
وفى قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً} تهديد ووعيد لهؤلاء الذين يسخرون بآيات اللّه، ويهزءون برسله، وبما ينذرونهم به من عذاب اللّه، فيقولون فيما يقولون: {فَأْتِنا بِما تَعِدُنا.. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [32: هود].
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} وإنه لا أظلم من إنسان جاءه من يذكّره بآيات ربّه- وكان من شأنه بما معه من عقل أن يذكر آيات ربّه المبثوثة في هذا الوجود، ويتهدّى إليه، ويؤمن به- من غير أن يدعوه أحد {فَأَعْرَضَ عَنْها} وأصمّ أذنه عن الاستماع إليها، {وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ} من آثام وضلالات.
إنه لهو الظلم أعظم الظلم، وهو الضلال أظلم الضلال، أن يقع الإنسان في الوحل، ثم يجىء من يمدّ يده إليه لاستنقاذه، بعد أن يكشف له الحال الذي هو فيه، فيأبى أن يسمع، ويمتنع أن يجيب!.
وانظر إلى تلك المنّة العظيمة، بإضافة هذا الإنسان الجحود، إلى ربّه واستدعائه إليه باسمه تعالى: وبآلائه التي يضفيها عليه، وهو يأبى إلا نفورا، وإلا إمعانا في الكفر والضلال!.
وفى قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} بيان للعلة الكامنة في هؤلاء الضالين، الذين أعرضوا عن آيات اللّه، واتخذوا آياته وما أنذروا به هزوا، وتلك العلّة هى أن اللّه سبحانه وتعالى- لحكمة أرادها- قد جعل على قلوبهم {أكنّة}، أي حجبا تحجبها عن الهدى، وأن تفقه آيات اللّه، وجعل في آذانهم {وقرا} أي صمما، فلا تسمع ما يتلى عليها من آيات اللّه.. فهم لهذا لن يهتدوا أبدا: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [41: المائدة].
{أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ} [23: محمد].
قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا}.
الموئل: الملجأ، والمهرب.. والخطاب للنبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه، وفحوى الخطاب مراد به قومه.. وإذ كشفت الآية السابقة عن جحود الإنسان، وكفره بآلاء ربّه، وإعراضه عن الاستماع لدعوته إليه- فقد جاءت هذه الآية لتكشف عن سعة رحمة اللّه ومغفرته لعباده، وهم على حرب معه ومع أوليائه.
فقد وسعتهم رحمته، ومغفرته، فلم يعجل سبحانه وتعالى لهم العذاب، ولم يأخذهم بما هم أهل له من نقمة وبلاء، كما أخذ الأمم السابقة من قبلهم، بل أمهلهم، وأفسح لهم المجال لإصلاح ما أفسدوا من أمرهم، والرجوع إلى ربهم من قريب.
وهذا- ولا شك- من خصوصيات هذه الأمة، التي اختصها اللّه بها، تكريما لرسوله الكريم، حيث يقول سبحانه: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [33: الأنفال].
وأكثر أنبياء اللّه ورسله، قد شهدوا بأعينهم مصارع أقوامهم.. ولكن هذه الأمة قد عافاها اللّه من هذا الابتلاء، وأكرم نبيّها فلم يفجعه في أهله وقومه.
وكان من تمام هذه النعمة على النبي الكريم وعلى أمته، أنه صلى اللّه عليه وسلم لم يدع هذه الدنيا، ويلحق بالرفيق الأعلى، حتى رأى بعينيه قومه جميعا يدخلون في دين اللّه أفواجا، ورأى العرب جميعا أمّة مؤمنة باللّه، وحتى تلقى من ربّه- سبحانه وتعالى- هذا الثناء العظيم على أمته بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.. وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [110: آل عمران] وفى قوله تعالى: {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} إشارة إلى أن مغفرة اللّه ورحمته، لا يدفعان بأسه عن القوم المجرمين.. فهناك حساب، وهناك جزاء، توفى فيه كل نفس ما كسبت.. وليس لأحد سبيل إلى الفرار من هذا الحساب، وذاك الجزاء!.
قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً}.
الإشارة هنا، إلى تلك القرى التي أهلكها اللّه من قبل، كقرى عاد، وثمود، ولوط.. فهذه القرى وغيرها ممن كفروا بآيات اللّه وعصوا رسله، قد أهلكهم اللّه، وعجّل لهم العذاب في الدنيا، ولم يمهلهم كما أمهل أهل هذه القرية مكة والقرى التي حولها، رحمة منه سبحانه وإكراما لنبيه الكريم.. وفى هذا تهديد لمشركى مكة، وإلفات لهم إلى أنهم واقعون تحت حكم القوم الهالكين، فتلك هى سنة اللّه التي قد خلت في عباده، لمن كفروا باللّه، وعصوا رسله.. وقد كفر أهل مكة باللّه، وعصوا رسله.. وإن فيما أخذ اللّه به القرى الظالمة من قبلهم لعبرة لهم.. وعلى هذا فإنه وإن أمهل اللّه أهل هذه القرية، فلم يعجل لها الهلاك، فإنهم هالكون لا محالة: {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}.
فالضمير في {لِمَهْلِكِهِمْ} يعود إلى أهل مكة، وهو أولى من عوده إلى أهل القرى المشار إليها في أول الآية.. إذ كان قوله تعالى: {لَمَّا ظَلَمُوا} يحمل معه الموعد الذي أهلكوا فيه، وهو عند ظلمهم وكفرهم باللّه، وعدوانهم على رسلهم.. فعود الضمير إلى أهل مكة الذين أشار إليهم قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا}.
أولى من عوده على أهل القرى، إذ يحقق معنى جديدا، فيه تهديد لمشركى مكة، وقطع لآمالهم في هذه الحياة، وتصحيح لظنونهم الكاذبة، وأمانيهم الباطلة، وأنهم ليسوا خالدين في هذه الدنيا.


{وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)}.
التفسير:
فى هذه الآيات، وما بعدها، قصة عجيبة، وحدث عجب، بين موسى، والعبد الصالح.. حيث تجرى الأحداث في متّجه على غير مألوف الحياة، وما اعتاد الناس أن يجروا أمورهم عليها.
وقبل أن نلتقى بآيات اللّه، وما تحدث به عن تلك القصة، نودّ أن نشير إلى أمور:
أولها: أن هذه القصة لم تذكرها التوراة.. ومن ثمّ فقد أنكرها اليهود وأنكروا أن يكون موسى المذكور فيها هو موسى بن عمران رسول اللّه..!! وهذا ما جعل كثيرا من المفسّرين يقيمون لهذا الإنكار من اليهود وزنا، ويجعلون من مقولاتهم عن موسى هذا، أنه رجل آخر غير موسى ابن عمران، ثم يحاولون أن يجعلوا له نسبا لا يتفقون عليه.. فهو عند بعضهم موسى بن مشيا بن يوسف بن يعقوب، وعند آخرين، هو موسى بن أفرائيم بن يوسف.. إلى كثير من تلك المقولات التي لا حدود لها.
وهذا كله مردود على أهله، سواء اليهود، أو من جعل لمقولاتهم حسابا في هذا المقام.
فليس في القرآن الكريم أىّ ذكر في غير هذا الموضع لموسى، غير موسى رسول اللّه، فإذا ذكر موسى في أي موضع من القرآن، فهو موسى رسول اللّه، ما دام ذكره مجردا من كل وصف خاص، يفرّق بينه وبين موسى رسول اللّه.
وليس إنكار اليهود حجة على القرآن، وليس عدم ذكر هذه القصة في التوراة حجة على القرآن كذلك.. وذلك:
1- أن القرآن مصدّق للكتب السابقة- ومنها التوراة- ومهيمن عليها.. فهى جميعها تبع له، وليس هو تابعا لها.
2- أن التوراة قد دخلها كثير من التحريف، والتبديل، والحذف، والإضافة.. وقد ذهب بهذا مالها من حجة على أنها هى كتاب اللّه، الذي يلتزم المؤمنون بكل ما جاء فيه.
3- ليس كل ما جاء في القرآن عن موسى وقومه قد ذكرته التوراة، وما ذكرته التوراة لا يتفق أكثره مع ما جاء في القرآن.. ومن ثمّ فلا وجه لاختصاص هذه الحادثة بالإنكار.. من جهة اليهود.. فقد أنكروا كثيرا مما جاء في القرآن من أحداث، بل لقد أنكروا ما هو موجود فعلا في التوراة مما تحدّث به القرآن من رجم الزاني، وقد أشرنا إلى هذا عند تفسير قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ} [43: المائدة]. وأكثر من هذا، فإنهم أنكروا ما في التوراة من وصف لرسول اللّه، كما يقول تعالى: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ} [157: الأعراف].
4- هذه الحادثة أمر خاص بموسى، ودرس من دروس العلم العالي، الواقع على مستوى فوق مستوى الحياة الإنسانية.. وهو حدث يمكن أن يقع لموسى، أو لغيره من الناس، نبيا كان أو وليّا من أولياء اللّه، أو عبدا من عباده الصالحين.. ومع هذا، فإن ذكر موسى مجردا من كل صفة، لا يعنى إلا موسى الذي له ذكر في القرآن.
وثانيها: هذه المقدّمة التي تمهد بها الآيات القرآنية لهذا اللقاء، الذي وقع بين موسى والعبد الصالح، يثير بعض التساؤلات، كأن يقال:
ما داعية هذا الحوار الذي بين موسى وفتاه؟ وما شأن هذا الحوت؟
وما متعلّق القصة به؟ وما هذه الصخرة التي جاوزها موسى وفتاه ثم عادا إليها؟.
وأخيرا: ما ذا لو خلت القصة من كل هذا، ووقع اللقاء بين موسى والعبد الصالح من غير هذه المقدّمات؟ أفي ذلك ما يذهب بشىء من مواقع العبرة والعظة التي جاءت القصة من أجلهما؟
والجواب على هذا:
أولا: أن القصة- كما قلنا، وكما سنرى- تجرى أحداثها في اتجاه على غير الاتجاه المألوف للناس، حسب تقديرهم وتفكيرهم.. وإذ كان موسى سيدخل في هذه التجربة، وسيجرى مع هذا الأحداث على صورة يرى فيها أنه يسير في وضع مقلوب، حيث أنه يمشى القهقرى، على حين أنه يريد أن يتجه إلى الأمام لغاية يقصدها- إذ كان ذلك كذلك، فقد كان من الطبيعي أن يعانى شيئا من هذه التجربة بنفسه، ومع إنسان يفكر على مستوى تفكيره، ويجرى في الحياة على ما اعتاد الناس منها، وهو فتاه الذي كان رفيق رحلته.
فموسى مع فتاه.. يسيران سيرا مجهدا إلى غاية يقصدانها، وهى الصخرة، التي سيلتقى عندها موسى مع العبد الصالح.. ومع هذا يمرّان بتلك الصخرة، ويأويان إليها، ثم يجاوزانها، حتى يجهدهما السفر.. ثم ينكشف لهما فيما بعد، أن هذه الصخرة، هى الصخرة المطلوبة، فيعودان إليها مرة أخرى.. ولو كان لموسى شيء من هذا العلم الذي سيكشفه له العبد الصالح لما دار هذه الدورة الطويلة ولما بذل كل هذا الجهد الضائع! إن موسى هنا يبحث عن حقيقة مادّية وهى الصخرة ومع أن الصخرة كانت تحت قدميه، فإنه لم يرها، ولم يتعرف عليها.. ولو رفع عنه حجاب الغيب للزم مكانه، ولما سعى هذا السّعى المجهد.
وفى هذا درس بليغ للإيمان بالقدر المتحكّم في مصائر الناس.. وأنه لو انكشف للناس ما قدّر لهم لما سعوا، ولما تحركوا، ولجمدت الحياة بالناس حيث هم.. لا يعملون، ولا يتحركون! وخذ مثلا الغلام الذي قتله العبد الصالح.. أترى لو انكشف لأبويه منه ما انكشف للعبد الصالح.. أكانا يبغيان الولد؟ بل أكانا يتزوجان؟.
وقل مثل هذا في كل شأن من شئون الحياة، خيرها وشرها.. أكان أحد يتحرك إلى غاية أبدا؟ وكيف والغايات- بحكم القدر- تطلب الناس، ولا يطلبونها؟ أما ونحن محجوبون عن أقدارنا، فإننا- بحكم الرغبة فينا- نسعى إلى أقدارنا، ونسلك إليها مسالك مستقيمة أو معوجة.. حتى نبلغها.
وتلك هى سنة الحياة فينا، والقوة الدافعة لنا إلى السعى والكفاح.
يتحرك الناس ويتحركون.. ثم ينتهى بهم المطاف إلى ما يحمدون أو مالا يحمدون.. ولو انكشفت لهم عواقب الأمور لوقفوا حيث هم، ولما ركبوا المخاطر والأهوال.. ولكنهم- مع هذا- مدفوعون إلى أقدارهم، يركبون إليها كل هول وخطر.. يقول ابن الرومي:
أقدّم رجلا رغبة في رغيبة *** وأمسك أخرى رهبة للمعاطب
أخاف على نفسى وأرجو مفازها *** وأستار غيب اللّه دون العواقب
ألا من يرينى غايتى قبل مذهبى! *** ومن أين؟ والغايات بعد المذاهب؟
وثانيا: أن موسى يريد أن يحصّل علما.. والعلم هو أعظم وأكرم ما يطلبه الإنسان في الحياة.. وشأن العلم وتحصيله، شأن كل ثمرة طيبة، يريد الإنسان الحصول عليها.. لا بد من مجهود يبذل، وإنه على قدر الجهد المبذول، تكون الثمرة التي تقع ليد الطالب.
ومن هنا كان على موسى إذن أن يبذل من جهده هذا الذي بذله، حتّى يصل إلى النبع الذي يريد أن يروى منه ظمأه، ويشفى عنده غليله، وينال طلبته..!
أما الحوت، فهو حدث عارض من أحداث هذا الموقف، ولون من ألوانه، حتى تكتمل الصورة، شأنه في هذا شأن الفتى الذي صحب موسى، وشأن الصخرة، وشأن البحر.. ولو لم يكن الحوت لكان هناك شيء آخر يقوم مقامه.
ونعود إلى الآيات، وسينكشف لنا عند النظر فيها، ما يزداد به هذا القول.
بيانا ووضوحا.
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآيات السابقة قد نعت على المشركين عنادهم وضلالهم، وتأبيهم عن الهدى، وقد جاءهم عفوا صفوا من غير أن يسعوا إليه، ويبذلوا الجهد في طلبه، وقد كان جديرا بهم، أن يطلبوا الهدى لأنفسهم، وأن يبذلوا في ذلك الجهد والمال.. ولكنهم لم يفعلوا.. سفها، وغفلة! فإذا جاءهم الهدى، وطلبهم قبل أن يطلبوه، ثم زهدوا فيه، وردوه ردا منكرا، كان ذلك سفها فوق سفه، وغفلة فوق غفلة.
وهذا بنى كريم من أنبياء اللّه، هو موسى عليه السلام، قد كلمه ربه، وأنزل عليه آياته وكلماته، ومع هذا، فهو لا يزال يطلب العلم، ويجدّ في تحصيله ويبتغى المعرفة، ويسعى للاستزادة منها.
وفى هذا ما يكشف عن مدى ما ركب سفهاء قريش وحمقاها، من جهل فاضح، وكبر صبيانى غشوم! إذ كانوا يرون أنهم لا يحتاجون إلى علم، حتى ولو كان هذا العلم يطرق أبوابهم، ويدخل عليهم بيوتهم!.
وقول موسى لفتاه: {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ}.
يريد به أنه على نية صادقة، وعزم وثيق، من أمره هذا الذي هو متجه إليه، وأنه لا ينقطع عن السير إليه حتى يبلغه.. فمعنى لا أبرح أي لا أزال، وهو فعل من أفعال الاستمرار، وخبره محذوف، تقديره لا أبرح سائرا.. ومجمع البحرين ملتقاهما.
وقد اختلف في البحرين.. ما هما؟ وأين ملتقاهما، أو مجمعهما؟
والذي أميل إليه، أنهما خليج السويس، وخليج العقبة، وأن ملتقاهما هو رأس شبه جزيرة سيناء عند طرفها الجنوبي، حيث يتفرع عندها البحر الأحمر إلى فرعين يذهبان شمالا ويحصران بينهما شبه جزيرة سيناء.. فحيث كان افتراقهما يكون اجتماعهما.. أي هو مجمعهما، وهو مجمع البحرين.
ويقوّى هذا الرأى عندنا، أنّ تحرّك موسى بعد خروجه ببني إسرائيل من مصر لم يجاوز شبه جزيرة سيناء، حيث ضرب فيها التيه على بنى إسرائيل أربعين سنة.
ومن جهة أخرى، فإن رأس شبه الجزيرة الجنوبىّ صخرى، تكثر فيه الصخور، والآكام، وتتشابه فيه معالم تلك الصخور، الأمر الذي اختلط به على موسى وجه الصخرة التي كانت موعدا له مع هذا العبد الصالح، الذي جدّ في طلبه.
أما ما يذهب إليه بعض المفسرين من أنه طنجة حيث يلتقى البحر الأبيض بالبحر المحيط، فهو بعيد إلى حد الاستحالة!
وأيا ما كان الأمر، فإنه ليس للبحرين، أو لمجمعهما شأن في كبير مضمون القصة ومحتواها.
وقوله تعالى: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} هو حكاية لقول موسى لفتاه، وتتمة لما قاله له.. من أنه لا يزال هكذا سائرا حتى يبلغ مجمع البحرين وأنه إذا لم يبلغ مجمع البحرين، ولم يهتد السبيل إليه، فسيظل ماضيا في سيره، لا يتوقف أبدا.. وفى هذا ما يشير إلى أن موسى- عليه السلام- وهو يطلب مجمع البحرين، لم يكن يعلم على سبيل القطع واليقين أين يجتمع هذان البحران، وإنما هو يتظنّى ذلك ظنا.
وهذا ما يكشف عنه قوله {لا أَبْرَحُ} التي تفيد أنه لا يكفّ عن الطلب والبحث.. وأما قوله: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} فهو يكشف عن حرصه الشديد على تحقيق هذه الرغبة، حتى أنه إذا لم يبلغها في المدى الذي قدره، فإنه لن يكف عن السعى، بل يظل هكذا طول حياته، راصدا لهذه الغاية، ساعيا إليها.. شأن من تتسلط عليه رغبة، ويستولى عليه أمل، فيعيش حياته كلها ساعيا لهذه الرغبة، جاريا وراء هذا الأمل، إلى أن يتحقق أو يموت دونه.
والحقب: الأزمان المتقطعة، تجىء زمنا بعد زمن، والحقبة: القطعة من الزمن، وجمعها القياسي: حقب لا حقب.. ولكن النظم القرآنى أصل يقاس عليه، ولا يقاس هو على ما ضبط من مقاييس اللغة.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً}.
هذه حادثة وقعت في طريقهما إلى مجمع البحرين.. لقد بلغاه فعلا، ولكنهما لم يكونا يدريان أن هنا هو مجمع البحرين..!
ويظهر أن موسى وفتاه لم يكونا قد سارا سيرا طويلا، حسبما كان ذلك في تقديرهما، شأن من يطلب أمرا عظيما، ويسعى وراء أمل ضخم، فيرصد له من كيانه عزما وثيقا، ويهيىء نفسه- سلفا- لملاقاة الشدائد والأهوال في سبيله.. فإذا عرض له المطلوب من قريب، أو لاحت له بعض أماراته، لم يلتفت إليه، ولم يقع في ظنه أنه هو الذي يجدّ في طلبه!! إنه أبعد من هذا، وإن الثمن المطلوب له لأغلى مما بذل له!! وهنا يستكثر المفسرون من الأقوال في الحوت الذي كان معهما، والذي نسياه عند مجمع البحرين! والذي نؤثر أن نقول به، هو أن هذا الحوت ليس إلا سمكة من أسماك البحر، وحوتا من حيتانه، وأنهما قد اصطاداه، أو صيد لهما، وحملاه حيا معهما، ليمكث أطول مدة، دون أن يتعفن، حتى يعدّاه طعاما لهما.. والحوت أكثر أنواع السمك احتمالا للحياة خارج الماء.. ولعلّ هذا هو السرّ في اختيارهما لهذا النوع من السمك، ليكون زادا لهما يتزودان به في رحلتهما.
ولقد غفل الفتى عن أمر هذا الحوت، فانسرب منه إلى البحر.. إذ كانا يمشيان على الشاطئ ويتخذانه دليلا لهما إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين.
فهما يسيران على شاطىء أحد البحرين إلى أن يلتقى بشاطئ البحر الآخر.
حيث يكون مجمعهما، وحيث توجد الصخرة!.
{فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ! وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً}.
أي فلما جاوزا مكانهما الذي كانا فيه عند مجمع البحرين، وسارا حتى أجهدهما السير، وهما يطلبان هذا المجمع، قال موسى لفتاه: {آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً}.
أي تعبا شديدا، نحتاج معه إلى شيء من الراحة، وشىء من الطعام، حتى نقوى على مواصلة السير.. وقد أسرع الفتى ليعدّ الطعام، ويهيىء الحطب والنار، ليشوى عليها الحوت الذي معهما.
وبحث الفتى عن الحوت فلم يجده.. وهنا تذكر أنه نسى الحوت عند ما أويا إلى الصخرة، واستراحا قليلا عندها.. فقال لموسى في أسف، وعجب من أمره: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ؟. فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ!! وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} وأحمله معى فيما أحمل من زاد ومتاع.. ثم إنه لم يمهل موسى، وينتظر رأيه في هذا الأمر، بل اندفع إلى البحر، ليصطاد شيئا يجعلانه غذاء لهما.. {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} أي أنه اتجه إلى البحر في قوة وعزم حتى يكفّر عن فعلته تلك، التي عدّها إهمالا منه، ولا يجبره إلا أن يسدّ هذا النقص، ويأتى بحوت كهذا الحوت الذي ضاع، أو بشىء يغنى غناءه..!
ولهذا كان منه هذا الأسلوب العجب في الاندفاع نحو البحر.!
وقوله تعالى: {قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً}.
القصص: تتبع الأثر.
وهنا يتذكر موسى أمارة من تلك الأمارات التي يتعرف بها إلى المكان الذي يلتقى عنده بالعبد الصالح.. فالعبد الصالح هناك عند صخرة، عند ملتقى البحرين.. ولكن عند ملتقى البحرين صخور لا حصر لها، تمتد إلى مسافات بعيدة، قد تبلغ مسيرة أيام.. فأى الصخور هى؟ إنها صخرة يفقد موسى عندها شيئا من متاعه، على غير قصد منه، وإلّا ما عدّ هذا فقدا.. هكذا كانت الأمارة الدالة على التقائه بالعبد الصالح.. وقد تكون هذه الأمارة وحيا تلقاه من ربّه، أو رؤيا رآها في منامه.
وأما وقد فقد الحوت عند تلك الصخرة التي أويا إليها.. فتلك إذن هى الصخرة المقصودة.. ولهذا، لم يلتفت موسى إلى فتاه، ولا إلى ما كان من نسيان الحوت، بل اتجه إلى المكان الذي عنده الصخرة، قائلا: {ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ} أي ذلك هو المقصد الذي كنا نقصده، والموضع الذي نبحث عنه.
{فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً} أي فعادا إلى الوراء، يتبعان آثارهما التي تنتهى بهما إلى حيث أويا إلى الصخرة، التي نسى الحوت عندها.
ذلك- في تقديرنا- هو أقرب مفهوم إلى تلك الآيات، وما ضمّت عليه من أسماء، ومسمّيات.. أما ما ذهب إليه المفسّرون من مقولات، لا يحتملها النظم القرآنى على أية صورة من صور الاحتمال، فذلك ما رأينا أن نصرف النظر عنه، فهو أقرب إلى الأساطير والخرافات منه إلى أي شيء آخر!!


{فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78)}.
التفسير:
فى هذه الآيات تبدأ أحداث هذا الحدث العظيم الذي كان موسى على موعد معه، والذي من أجله قطع هذه الرحلة المثيرة، واحتمل ما احتمل من جهد وعناء.
وهنا يلتقى الرجلان: موسى والعبد الصالح، ويقول المفسّرون، والمحدّثون عن هذا العبد الصالح إنه الخضر الذي يصفونه بصفات عجيبة، هى من بعض واردات ما تشير إليه الآيات، والتي يبدو فيها أستاذا كبيرا يعلّم نبيّا من أنبياء اللّه.
والقرآن الكريم، لم يتحدث عن هذا العبد الصالح أكثر من وصفه بأنه عبد من عباد اللّه، آتاه رحمة منه، وعلمه من لدنه علما.. ولا شك أن هذا الوصف يضفى على صاحبه من الألطاف الربانية ما يرفع مقامه إلى أعلى عليّين، حيث يشهد من عالم الغيب ما لم يظهر اللّه سبحانه عليه أحدا إلا من ارتضى من عباده.
أما ما ذهب إليه أكثر المفسّرين من مقولات في الخضر وفى أن يملأ هذه الدنيا حياة وأنه يطوف بآفاق الأرض، ويردّ السلام على كل من يسلّم عليه، وأنه يظهر لبعض الناس ويتحدث إليهم.. فذلك كلّه من وراء ما تحدث به آيات القرآن الكريم.
وهذا اللقاء الذي وقع بين موسى والعبد الصالح لم يدم طويلا، ولم تجر فيه بينهما إلا أحداث ثلاثة، أوقعت بينهما خلافا حادّا، ثم انتهت بفراق.
ويبدأ اللقاء بين العبدين الصالحين، بأن يعرض موسى على صاحبه أن يقبله تابعا له، يتعلم من علمه، ويغترف من بحره.. وذلك في تواضع كريم وأدب نبوىّ عظيم.. فيقول:
{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً؟}.
وفى هذا العرض أمور:
1- استئذان مصحوب برجاء، وتلطّف.
2- أن يكون موسى تابعا يقفو أثر متبوعه، ويمشى في ظله.
3- أن تكون غاية هذه الصحبة، وتلك المتابعة، تحصيل العلم والمعرفة، فيفيد موسى علما، وينال العبد الصالح أجرا.
4- هذا العلم الذي عند العبد الصالح ليس من ذات نفسه، بل هو علم علّمه، وإذن فهو مطالب بأن يعلّم كما علّم.
5- هذا العلم المطلوب تعلّمه، هو مما يكمل به الإنسان ويرشد.. فهو علم يهدى إلى الحق، وإلى الرشاد، لا إلى الضلال والفساد.
ويستمع العبد الصالح إلى هذا العرض من موسى، فيرى أن العلم الذي عنده، والذي يطلب موسى تناول شيء منه، هو علم لا يستسيغه عقله، ولا يقبله منطقه، فيقول له في وداعة ولطف:
{إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً}؟
أي إن العلم الذي معى، هو علم فوق إدراك العقول وتصوراتها،. وإذن فلن يكون مبعث اطمئنان لك، إذ يرفضه عقلك، ويتأبّى عليه منطقك.. والعلم الذي يفيد صاحبه، هو العلم الذي يحيط به عقله، وتتسع له مداركه، فينزل عنده منزل القبول والاطمئنان.. فإذا لم يكن كذلك أضرّ ولم ينفع، وأثار في النفس قلقا، واضطرابا، وعقد في سماء الفكر، سحبا من الشكوك والريب.
وإذ يتلقّى موسى هذا الرد، يجد أن الفرصة تكاد تفلت منه، ويرى سعيه الذي سعاه قد جاء بغير طائل.. ولكنه لا بد أن يمضى في التجربة إلى غايتها، خاصة وقد أثار هذا القول غريزة حبّ الاستطلاع عنده، وأغراه بأن يخوض عباب هذا البحر، ولو خاطر بنفسه.. فقال في أدب نبوىّ رفيع:
{سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً}.
هكذا ينبغى أن يكون أدب الطلب والتحصيل.
وإزاء هذه الرغبة الملحّة من هذا التلميذ الحريص على طلب العلم والمعرفة، يرضى الأستاذ أن يكشف لتلميذه عن بعض ما عنده، ولكنه يشترط لنفسه، كما اشترط التلميذ من قبل لنفسه، أن تكون صحبته غاية لطلب العلم.
فيقول:
{فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً}.
أي إن اتبعتنى فعليك أن تلزم الصمت، ولا تنطق بكلمة، ولا تنبس ببنت شفة، حتى أكون أنا الذي يدعوك إلى الكلام فيما أريدك عليه.
وهنا تبدأ الرحلة، في رحاب هذا العلم الربّاني.
{فَانْطَلَقا.. حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها}.
وهكذا تبدأ الجولة الأولى بهذا الحدث، الذي يدور له رأس موسى، ويأخذ عليه العجب كلّ سلطان على نفسه.. فيصرخ في وجه أستاذه قائلا:
{أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها.؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً}!! فما هكذا يعمل العقلاء، وما هكذا تجرى أعمال أهل الصلاح والتقوى.. إنه عدوان صارخ على الأبرياء.. لا مبرّر له، ولا عذر لمرتكبه! والإمر: المنكر من الأمر.
ويتلقى العبد الصالح هذه الثورة المتوقعة من موسى، في رفق ولطف.
فلا يزيد على أن يقول له:
{أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً؟}.
وهنا يتنبّه موسى إلى الشرط الذي كان قد اشترطه عليه صاحبه، وصحبه هو عليه.. فيقول معتذرا في أدب كريم:
{لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً}.
أي هذه هفوة فتجاوز لى عنها.. وخذنى برفق، ولا تشتدّ علىّ، وأنت تعلم من أول الأمر ثقل هذا الذي تلقيه علىّ من علمك.
{فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ}! وهذه فعلة أشد من سابقتها وقعا، وأفدح خطبا، وأنكر نكرا.
إذ كانت الأولى في متاع من متاع الدنيا.. أما هذه، فقد وقعت على نفس إنسانية بريئة براءة الطفولة.. لم تقترف إثما، ولم تأت منكرا.. ومن أجل هذا ينسى موسى وجوده كلّه، ولا يذكر الشرط الذي بينه وبين صاحبه، ولا يلتفت إلى زلّته التي زلّها منذ قليل مع أستاذه، واعتذاره له.. فيصرخ صرخة عالية مدوّية:
{أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً}.
هكذا يلقى في وجه أستاذه بهذا الاتهام الصريح.. {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً!} وكان في المرة الأولى قد لقيه بالاتهام في مواربة وعلى استحياء: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً}.
فالموقف هنا إزاء جريمة صارخة لا يمكن أن يقوم لها- حسب تقديره- عذر أبدا.. وإن كان يمكن أن يقام لخرق السفينة- ولو على سبيل المراء والجدل- عذر.
وهنا، يأخذ الأستاذ تلميذه بشىء من الشدّة، والتأنيب.. فيقول:
{أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}؟ ففى كلمة {لك} نخسة قوية، ويد تمتد إلى موسى من صاحبه فتعرك أذنه! ولا يجد موسى أمام هذا البعد البعيد الذي بين منطلقه ومنطلق صاحبه، إلا أن يحسم الموقف، ويقطع الشوط الذي إن طال بينهما إلى أبعد من هذا المدى، لم تحمد عاقبته، وربما تصارعا، وتقاتلا إذ لم يعد اللسان أداة قادرة على سدّ هذه الثغرات الهائلة بينهما.. فيقول:
{إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي.. قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً}.
لقد وجد موسى لصاحبه العذر في ضيقه به، ولومه له.. إنه قد صحبه على شرط، وها هو ذا يخرق الشرط مرة، ومرة.. وهو بسبيل أن يخرقه مرات إذا طال الطريق بهما.
{فَانْطَلَقا.. حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ..}.
وهذا عمل لا يقبله عقل، ولا يستسيغه منطق.. قرية، ينزلان بها، ويطلبان إلى أهلها أن ينزلاهما فيها منزل الضيفان، فلا يجدان منهم إلا الصدّ، والدّفع.
قرية ماتت فيها كل مشاعر الإنسانية، وذهبت منها كل معانى المروءة.. ومع هذا يجدان فيها خربة، لا يأوى إليها إلا الهوامّ، فيغشيانها، ليجدا فيها من السّكن ما لم يجداه عند أهلها.. ثم يريان فيها جدارا {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} قد تصدّع بنيانه، وارتعشت أوصاله، وكاد يهوى إلى الأرض.. وهنا يدعو العبد الصالح عزمه وقوته، فيقيم هذا الجدار المتداعى، وإذا هو وقد دبت الحياة في كيانه، فثبتت قواعده، واعتدل قوامه!! ويرى موسى هذا، فيعجب ويدهش، ويفيض به الكيل، ثم لا يملك أن يحتفظ بما يزمجر في صدره من مشاعر الغيظ والألم.. فيقول لصاحبه:
{لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً}؟
وفى هذه القولة لم يلق موسى بكل ما عنده.. ولكنّه، وقد عرف أن تلك هى الحاسمة القاطعة لما بينه وبين صاحبه، وإنه ليعزّ عليه أن ينهى هذه الصحبة، التي حرص عليها، وتوقع العلم الكثير المفيد منها- يعزّ عليه أن ينهيها على هذا الوجه، ولم يحصّل علما، ولم يفد معرفة، وإنما كل محصوله منها هو تلك المتناقضات، التي يقع كثير منها في كل لحظة من لحظات الحياة، وفى كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية، على مختلف مستوياتها.
نقول إن موسى لم يلق بهذه القولة المستكينة الضارعة، إلا ليجد لها عند صاحبه قبولا، فلا يحتسبها عليه، ولا يعدّها مما ينقض الشرط الذي بينهما، فيمضى به إلى غاية أخرى، لعلها تكشف له علما، أو تجىء إليه بجديد غير هذا الذي ما زال صاحبه يطلع به عليه! ولكن العبد الصالح لا يلتفت إلى المشاعر التي تلبّست بها هذه القولة، بل يأخذها كما هى.. إنها اعتراض ولا شك، وإنها خروج على الشرط الذي اشترطه على صاحبه: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً}! وهنا يسمعها موسى منه.. حكما قاطعا: {هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}!.
فقد بلغ الأمر بينهما غايته، ولم يعد ثمة أمل في أن يلتقيا على طريق واحد.
ولكن.. لم كان هذا العناء الذي عاناه موسى، حتى التقى بهذا الرجل الذي قيل له إنه سيجد عنده من العلم ما لم يجده عند غيره؟ فأين هو هذا العلم؟
إن يكن ما حصّله موسى من تلك التجربة، هو هذا الذي وقع في نفسه من أحداثها.. فما أغناه عن هذا العلم، الذي بلبل خاطره، وشتت مجتمع رأيه، وألقى فيه ما ألقى من وساوس وظنون! وإنه ما يكاد موسى يستمع إلى شيء من هذه الخواطر، حتى يطلع عليه صاحبه بقوله: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}! أهكذا الأمر إذن؟
أهناك نبأ وراء هذه الأحداث، غير ما يحدّث به ظاهرها؟ وماذا عسى أن يكون هذا النبأ؟
وإنه لنبأ عظيم! سنرى فيما ينكشف منه علاجا لقضية من أعقد القضايا التي واجهها العقل الإنسانى، وهى مشكلة القضاء والقدر.
التي نرجو أن نعرض لها- إن شاء اللّه- بعد أن نرى تأويل العبد الصالح لموسى {ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}.

1 | 2 | 3 | 4